كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واستعير لما حلّ بهم اسمُ الطائر مشاكلَة لقولهم: {اطيرنا بك وبمن معك}، ومخاطبةً لهم بما يفهمون لإصلاح اعتقادهم، بقرينة قولهم {اطيرنا بك}.
و{عند} للمكان المجازي مستعارًا لتحقّق شأن من شئون الله به يقدر الخير والشر وهو تصرف الله وقدرُه.
وقد تقدم نظيره في الأعراف.
وأضرب ب {بل} عن مضمون قولهم: {اطيرنا بك وبمن معك} بأن لا شؤم بسببه هو وسبب من معه ولكن الذين زعموا ذلك قوم فتنهم الشيطان فتنة متجددة بإلقاء الاعتقاد بصحة ذلك في قلوبهم.
وصِيَغ الإخبار عنهم بأنهم مفتونون بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم بذلك.
وصيغ المسند فعلًا مضارعًا لدلالته على تجدد الفتون واستمراره.
وغلب جانب الخطاب في قوله: {تفتنون} على جانب الغيبة مع أن كليهما مقتضى الظاهر ترجيحًا لجانب الخطاب لأنه أدل من الغيبة.
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)} عطف جزء القصة على جزء منها.
و{المدينة} هي حِجْر ثمود بكسر الحاء وسكون الجيم المعروف مكانُها اليوم بديار ثمود ومدائن صالح، وهي بقايا تلك المدينة من أطلال وبيوت منحوتة في الجبال.
وهي بين المدينة المنورة وتبوك في طريق الشام وقد مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في مسيرهم في غزوة تبوك ورأوا فيها آبارًا نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب والوضوء منها إلا بئرًا واحدة أمرهم بالشرب والوضوء بها وقال: «إنها البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح».
والرهط: العدد من الناس حوالي العشرة وهو مِثل النَفر.
وإضافة تسعة إليه من إضافة الجزء إلى اسم الكل على التوسع وهو إضافة كثيرة في الكلام العربي مثل: خمس ذود.
واختلف أئمة النحو في القياس عليها، ومذهب سيبويه والأخفش أنها سماعية.
وكان هؤلاء الرهط من عتاة القوم، واختلف في أسمائهم على روايات هي من أوضاع القصّاصين ولم يثبت في ذلك ما يعتمد.
واشتهر أن الذي عقر الناقة اسمه قُدَار بضم القاف وتخفيف الدال، وقد تشاءم بعض الناس بعدد التسعة بسبب قصة ثمود وهو من التشاؤم المنهي عنه.
و{الأرض} أرض ثمود فالتعريف للعهد.
وعطف {لا يصلحون} على {يفسدون} احتراس للدلالة على أنهم تمحّضوا للإفساد ولم يكونوا ممن خلطوا إفسادًا بإصلاح.
وجملة: {قالوا} صفة ل {تسعة}، أو خبر ثان ل {كان}، أو هو الخبر ل {كان}.
وفي {المدينة} متعلق ب {كان} ظرفًا لغوًا ولا يحسن جعل الجملة استئنافًا لأنها المقصود من القصة والمعنى: قَال بعضهم لبعض.
و{تقاسموا} فعل أمر، أي قال بعضهم: تقاسموا، أي ابتدأ بعضهم فقال: تقاسموا.
وهو يريد شمول نفسه إذ لا يأمرهم بذلك إلا وهو يريد المشاركة معهم في المقسم عليه كما دل عليه قوله: {لنبيتنه}.
فلما قال ذلك بعضهم توافقوا عليه وأعادوه فصار جميعهم قائلًا ذلك فلذلك أسند القول إلى التسعة.
والقَسَم بالله يدل على أنهم كانوا يعترفون بالله ولكنهم يشركون به الآلهة كما تقدم في قصصهم فيما مرّ من السور.
و{لنُبَيّتَنّهُ} جواب القسم، والضمير عائد إلى صالح.
والتبييت والبيات: مباغتة العدوّ ليلًا.
وعكسه التصبيح: الغارة في الصباح، وكان شأن الغارات عند العرب أن تكون في الصباح، ولذلك يقول مَن ينذر قومًا بحلول العدوّ: يَا صبَاحَاهُ، فالتبييت لا يكون إلا لقصد غدْر.
والمعنى: أنهم يغيرون على بيته ليلًا فيقتلونه وأهلَه غدْرًا من حيث لا يُعرف قاتله ثم ينكرون أن يكونوا هم قتلوهم ولا شهدوا مقتلهم.
والمُهلك: مصدر ميمي من أهلك الرباعي، أي شهدنا إهلاك من أهلكهم.
وقولهم: {وإنا لصادقون} هو من جملة ما هيَّأوا أن يقولوه فهو عطف على {ما شهدنا مهلك} أي ونؤكد إنّا لصادقون.
ولم يذكروا أنهم يحلفون على أنهم صادقون.
وقرأ الجمهور: {لنُبيّتنَّه} بنون الجماعة وفتح التاء التي قبل نون التوكيد.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أوله وبضم التاء الأصلية قبل نون التوكيد.
وذلك على تقدير: أمر بعضهم لبعض.
وهكذا قرأ الجمهور {لنقولَنَّ} بنون الجماعة في أوله وفتح اللام.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب وبضم اللام.
وقرأ الجمهور: {مُهْلَك} بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر الإهلاك أو مكانُه أو زمانه.
وقرأه حفص بفتح الميم وكسر اللام ويحتمل المصدر والمكان والزمان.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام فهو مصدر لا غير.
ووليُّ صالح هم أقرب القوم له إذا راموا الأخذ بثأره.
وهذا الجزء من قصة ثمود لم يذكر في غير هذه السورة.
وأحسب أن سبب ذكره أن نزول هذه السورة كان في وقتتٍ تآمرَ فيه المشركون على الإيقاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو التآمر الذي حكاه الله في قوله: {وإذ يمكُرُ بك الذين كفروا ليُثْبِتُوك أو يَقْتُلُوك أو يُخْرِجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30]؛ فضرب الله لهم مثلًا بتآمر الرهط من قوم صالح عليه ومكرِهم وكيف كان عاقبة مكرهم، ولذلك ترى بين الآيتين تشابهًا وترى تكرير ذكر مكرهم ومكر الله بهم، وذكر أن في قصتهم آية لقوم يعلمون.
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)}.
سمَّى الله تآمرهم مكرًا لأنه كان تدبير ضُرّ في خفاءٍ.
وأكد مكرهم بالمفعول المطلق للدلالة على قوته في جنس المكر، وتنوينه للتعظيم.
والمكر الذي أسند إلى اسم الجلالة مكر مجازي.
استعير لفظ المكر لمبادرة الله إياهم باستئصالهم قبل أن يتمكنوا من تبييت صالح وأهله، وتأخيره استئصالهم إلى الوقت الذي تآمروا فيه على قتل صالح لشَبَه فِعللِ الله ذلك بفعل الماكر في تأجيل فعل إلى وقت الحاجة، مع عدم إشعار من يُفعل به.
وأُكد مكر الله وعُظّم كما أكد مكرهم وعُظّم، وذلك بما يناسب جنسه، فإن عذاب الله لا يدانيه عذاب الناس فعظيمه أعظم من كل ما يقدره الناس.
والمراد بالمكر المسند إلى الجلالة هو ما دلت عليه جملة: {إنا دمرناهم وقومهم أجمعين} الآية.
وفي قوله: {وهم لا يشعرون} تأكيد لاستعارة المكر لتقدير الاستئصال فليس في ذلك ترشيحٌ للاستعارة ولا تجريد.
والخطاب في قوله: {فانظر} للنبيء صلى الله عليه وسلم واقترانه بفاء التفريع إيماء إلى أن الاعتبار بمكر الله بهم هو المقصود من سَوْق القصة تعريضًا بأن عاقبة أمره مع قريش أن يكفّ عنه كيدَهم وينصره عليهم، وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من قومه.
والنظر: نظر قلبي، وقد علق عن المفعولين بالاستفهام.
وقرأ الجمهور: {إنا دمرناهم} بكسر الهمزة فتكون الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لما يثيره الاستفهام في قوله: {كيف كان عاقبة مكرهم} من سؤال عن هذه الكيفية.
والتأكيد للاهتمام بالخبر.
وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بفتح الهمزة فيكون المصدر بدلًا من {عاقبة}.
والتأكيد أيضًا للاهتمام.
وضمير الغيبة في {دمرناهم} للرهط.
وعطف قومهم عليهم لموافقة الجزاء للمجزيّ عليه لأنهم مكروا بصالح وأهلِه فدمّرهم الله وقومهم.
والتدمير: الإهلاك الشديد، وتقدم غير مرة منها في سورة الشعراء.
والقصة تقدمت.
وتقدم إنجاء صالح والذين آمنوا معه وذلك أن الله أوحى إليه أن يخرج ومن معه إلى أرض فلسطين حين أنذر قومه بتمتع ثلاثة أيام.
وتفريع قوله: {فتلك بيوتهم خاوية} على جملة: {دمرناهم} لتفريع الإخبار.
والإشارة منصرفة إلى معلوم غير مشاهد لأن تحققه يقوم مقام حضوره فإن ديار ثمود معلومة لجميع قريش وهي في طريقهم في ممرّهم إلى الشام.
وانتصب {خاوية} على الحال.
وعاملها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل كقوله تعالى: {وهذا بعْلِي شيخًا} وقد تقدم في سورة هود (72).
والخاوية: الخالية، ومصدره الخَواء، أي فالبيوت باق بعضها في الجبال لا ساكن بها.
والباء في {بما ظلموا} للسببية، وما مصدرية، أي كان خَواؤها بسبب ظلمهم.
والظلم: الشرك وتكذيب رسولهم، فذلك ظلم في جانب الله لأنه اعتداء على حق وحدانيته، وظلم للرسول بتكذيبه وهو الصادق.
ولما خص الله عملهم بوصف الظلم من بين عدة أحوال يشتمل عليها كفرهم كالفساد كان ذلك إشارة إلى أن للظلم أثرًا في خراب بلادهم.
وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: أجد في كتاب الله أن الظلم يخرّب البيوت وتلا: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا}.
وهذا من أسلوب أخذ كل ما يُحتمل من معاني الكلام في القرآن كما ذكرناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.
ونزيده هنا ما لم يسبق لنا في نظائره، وهو أن الحقائق العقلية لما كان قوام ماهياتها حاصلًا في الوجود الذهني كان بين كثير منها انتساب وتقارب يُردّ بعضها إلى بعض باختلاف الاعتبار.
فالشرك مثلًا حقيقة معروفة يكون بها جنسًا عقليًا وهو بالنظر إلى ما يبعث عليه وما ينشأ عنه ينتسب إلى حقائق أخرى مثل الظلم، أي الاعتداء على الناس بأخذ حقوقهم فإنه من أسبابه، ومثل الفسق فإنه من آثاره، وكذلك التكذيب فإنه من آثاره أيضًا: {وذرني والمكذبين} [المزمل: 11]، ومثل الكبر ومثل الإسراف فإنهما من آثاره أيضًا.
فمن أساليب القرآن أن يعبر عن الشرك بألفاظ هذه الحقائق للإشارة إلى أنه جامع عدة فظائع، وللتنبيه على انتسابه إلى هذه الأجناس، وليعلم المؤمنون فساد هذه الحقائق من حيث هي فيعبر عنه هنا بالظلم وهو كثير ليعلم السامع أن جنس الظلم قبيح مذموم، ناهيك أن الشرك من أنواعه.
وكذلك قوله: {إن الله لا يهدي من هو مُسرف كذّاب} [غافر: 28] أي هو متأصل في الشرك وإلا فإن الله هدى كثيرًا من المسرفين والكاذبين بالتوبة، ومن قوله: {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين} [الزمر: 60] ونحو ذلك.
وجملة: {إن في ذلك لآية} معترضة بين الجمل المتعاطفة.
والإشارة إلى ما ذكر من عاقبة مكرهم.
والآية: الدليل على انتصار الله لرسله.
واللام في {لقوم يعلمون} لام التعليل يعني آية لأجلهم، أي لأجل إيمانهم.
وفيه تعريض بأن المشركين الذين سبقت إليهم هذه الموعظة إن لم يتعظوا بها فهم قوم لا يعلمون.
وفي ذكر كلمة قوم إيماء إلى أن من يعتبر بهذه الآية متمكن في العقل حتى كان العقل من صفته القومية، كما تقدم في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164).
وفي تأخير جملة: {وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} عن جملة: {إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} طمأنة لقلوب المؤمنين بأن الله ينجيهم مما توعد به المشركين كما نجى الذين آمنوا وكانوا يتّقون من ثمود وهم صالح ومن آمن معه.
وقيل: كان الذين آمنوا مع صالح أربعة آلاف، فلما أراد الله إهلاك ثمود أوحى الله إلى صالح أن يخرج هو ومن معه فخرجوا ونزلوا في موضع الرسّ فكان أصحاب الرسّ من ذرياتهم.
وقيل: نزلوا شاطىء اليمن وبنوا مدينة حَضرموت.
وفي بعض الروايات أن صالحًا نزل بفلسطين.
وكلها أخبار غير موثوق بها.
وزيادة فعل الكون في {وكانوا يتقون} للدلالة على أنهم متمكّنون من التقوى. اهـ.